• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المقاصد الكبرى للاستشراق

د.محمد عمارة

المقاصد الكبرى للاستشراق

في العلاقات بين الغرب والشرق‏,‏ كانت ظاهرة الاستشراق واحدة من أبرز الظواهر الفكرية
التي عرفتها هذه العلاقات..
 ولأن الاستشراق: هو سعي الغرب بدراسة الشرق ـ دياناته ومذاهبه وشعوبه وثقافاته وحضاراته
 ـ فلقد اختلفت وتمايزت مقاصد المستشرقين من وراء الدراسات التي سعوا إلي إنجازها...
فكان فيهم العلماء الذين سعوا إلي المعرفة, والكشف عن عوالم الشرق, وما شاع حولها من حقائق وأساطير...
وكان منهم من مثلوا الطلائع الفكرية التي مهدت السبل أمام مؤسسات الهيمنة الغربية الدينية والسياسية ـ الطامعة ـ تاريخيا ـ في الاستيلاء علي الشرق, لنهب ثرواته, واحتواء ثقافاته, وإلحاقه بالمركزية الحضارية الغربية..
فكان هذا الفريق من المستشرقين بمثابة كتائب الاستكشاف التي تتقدم الجيوش لتمهد أمامها طرق الزحف والقتال!.
وإذا نحن شئنا أن نكشف أبرز سلبيات هذا اللون من الاستشراق, الذي عمل رجاله علي خدمة مشاريع الهيمنة والاحتواء الغربية للشرق, فإننا نستطيع أن نصنفها تحت هذه العناوين.
1 ـ نقل مشكلات اللاهوت الكنسي الغربي إلي الإسلام,
وذلك بالتشكيك في إلهية الوحي القرآني, ومصداقية السنة النبوية,
وتصوير الإسلام باعتباره هرطقة شرقية, وصورة عربية من اليهودية والمسيحية..
وتصوير الشريعة الإسلامية, وكأنها صورة عربية من القانون الروماني.
2 ـ نقل الثنائيات المتناقضة التي تميزت بها الحضارة الغربية إلي الفكر الإسلامي..
التناقضات بين الدين والدولة...
بين العلم والدين...
بين الدنيا والآخرة..
بين الذات والموضوع..
بين الفرد والمجموع... إلخ....
3 ـ تضخيم حجم الفرق والمذاهب الهامشية والشاذة والمغالية ـ الباطنية والغنوصية ـ التي ظهرت في الحياة الفكرية الإسلامية,
وذلك لإظهار المسلمين وكأنهم أمة من الشراذم والأقليات الشاذة,
وذلك علي حساب الوحدة التي مثلها أهل السنة والجماعة, الذين مثلوا أكثر من90% من المسلمين علي مر تاريخ الإسلام.
4 ـ إشاعة العلمانية الغربية في الأوساط الفكرية والسياسية الإسلامية, لنزع القداسة عن المقدسات الإسلامية, وإزاحة المرجعية الدينية عن الحياة,
تمهيدا لإلحاق الشرق الإسلامي بالغرب العلماني ثقافيا وسياسيا, بإزالة التميز الديني والفكري الذي يعصم الشرق من هذا الإلحاق والذوبان.
5 ـ تربية أجيال من الحداثيين العرب والمسلمين والشرقيين, الذين يبشرون ـ نيابة عن المستشرقين ـ بالحداثة الغربية, التي تقيم قطيعة معرفية كبري مع الموروث, والموروث الديني علي وجه الخصوص,
والتي تستبدل الدين الطبيعي ـ القائم علي العقل والعلم ـ بالدين الإلهي
وذلك حتي يتماهي الشرق مع الغرب, الذي دفعته الحداثة إلي هذا المصير.
6 ـ الترويج للنزعة التاريخية ـ أو التاريخانية التي تنزع عن ثوابت الدين ـ عقائده وقيمه وأحكامه ـ صفة الاستمرار والخلود, فتحيله إلي التقاعد والاستيداع مع تغير الواقع ومرور التاريخ.
7 ـ إشاعة المعني العرقي والعنصري الإثني للقومية بين شعوب الشرق, لنقل القوميات الإسلامية من كونها دوائر لغوية وثقافية, تحتضنها الجامعة الإسلامية إلي نزاعات عرقية وعصبيات إثنية, والغام تفجر الصراعات داخل العالم الإسلامي,
حتي يكون بأسه بينه شديدا, فيصبح فسيفساء ورقية يسهل علي الغرب الاستعماري احتواؤه وإلحاقه بالمركزية الحضارية والسياسية الغربية.
9 ـ العمل علي إحلال العاميات واللهجات المحلية محل اللغة العربية الفصحي,
وذلك لفصل الواقع اللغوي عن القرآن العربي,
ولقطع أوصال الوحدة اللغوية التي بناها القرآن الكريم والشريعة الإسلامية,
وذلك لفرنسة وجلنزة الألسنة في بلاد العروبة والإسلام, وتحويل الأمة الوحدة إلي أمم شتي.
تلك كانت أبرز السلبيات التي زرعها الفكر الاستشراقي بشكل مباشر أو, عن طريق تلامذته ـ في الحياة الفكرية الإسلامية, خدمة لمؤسسات الهيمنة الغربية ـ الدينية والسياسية ـ التي عمل في خدمتها هذا اللون من الاستشراق.
ولأن الجانب العقدي والإيماني والقيمي من الإسلام هو أدخل في دائرة الفطرة الإنسانية, التي يصعب ـ بل وقد يستحيل ـ التأثير فيها,
 فإن فكرية الاستشراق والغزو الفكري والتغريب لم تفلح في تحقيق أي نجاحات في هذا الميدان ـ اللهم إلا حالات محدودة من التغيير ـ...
لكن ظلت الزندقة والإلحاد, وتبني الفلسفة المادية في تفسير الخلق ورؤية الكون غريبة عن وجدان المسلمين..
حتي أن الأحزاب الماركسية التي تتبني المادية الجدلية والتفسير المادي لنشأة الكون, وسير الاجتماع والتاريخ...
حتي هذه الأحزاب ـ التي ظلت هامشية ـ لم تجرؤ علي الدعوة ـ في أدبياتها ـ إلي الزندقة والإلحاد ـ كما حدث في الدول الشيوعية ـ وذلك مخافة ردود الأفعال في المجتمعات المؤمنة التي تعيش فيها, والتي تحاول التقرب إلي جماهيرها.
 أما الجانب الذي حقق فيه الاستشراق والتغريب والغزو الفكري نجاحات كبري بل وكارثية ـ فكان مجال علمنة القانون, وعزل الشريعة الإسلامية عن مؤسسات التشريع والقضاء, وإحلال القانون الوضعي قانون نابليون ـ ذي الأصوال الرومانية ـ محل شريعة الإسلام وفقه المعاملات الإسلامية.
ولقد سلك الغرب إلي تحقيق علمنة القانون وتغريبه في بلادنا الإسلامية العديد من الطرق والأساليب:
أ ـ فمرة بإعلانه أن تغريب القانون في المستعمرات المسلمة هو حق للأسلحة الغازية التي أخضعت هذه البلاد...
وبعبارة أستاذ الحقوق الفرنسي جورج سوردون:
 فإن الأسلحة الفرنسية هي التي فتحت البلاد العربية وهذا يخولنا حق أختيار التشريع الذي يجب تطبيقه في هذه البلاد!.
ب ـ ومرة بالتسلل الناعم والتدريجي المصاحب لزيادة أعداد الجاليات الأجنبية في بلادنا, ونمو المبادلات التجارية بين الأجانب والمواطنين المسلمين..
كما حدث في مصر, عندما بدأ تسلل القانون الأجنبي إلي المحاكم التجارية, في الموانئ المصرية في ابريل سنة1855 م, علي عهد الخديو سعيد1237ـ1279 هـ1822 ـ1836 م..
ثم إلي المحاكم القنصلية...
ثم إلي المحاكم المختلطة سنة1875 م..
حتي إذا ما حدث الاحتلال الانجليزي لمصر سنة1882 م تم تعميم هذا القانون الأجنبي في القضاء الأهلي المصري1883 م
ج ـ ومرة عن طريق تغريب الواقع بالتدريج, حتي يصبح تغريب القانون مطلبا يستدعيه هذا الواقع المتغرب..
كما حدث في شبه القارة الهندية, الذي تحدث عنه العلامة أبو الأعلي المودودي(1321 ـ1399 هـ1903 ـ1979 م)
فقال:
إن الانجليز قد صرفوا مدة قرن كامل تقريبا في تبديل نظام البلاد القانوني,
بدلوا نظام حياتها أولا شيئا فشيئا,
وأعدوا رجالا لا يتفكرون, ولا يعملون إلا حسب نظرياتهم وأفكارهم,
وعملوا عملا متواصلا علي تغيير أذهان الناس وأخلاقهم ونظامهم الاقتصادي بنشر الأفكار وبتأثير السلطة والاستيلاء
 أي ظلوا يلغون القوانين القديمة وينفذون مكانها قوانينهم الجديدة علي قدر ما ظلت تأثيراتهم المختلفة تغير من نظام البلاد الاجتماعي.

ارسال التعليق

Top